واحة التفكير

’, المتطوعون السعداء `~ د. مصطفى‘ الحسن‘

الخميس 11 ربيع الآخر 1437 هـ الموافق 21 يناير 2016 م

المتطوعون السعداء
د. مصطفى الحسن

 

لخّص بعض الهنود القدامى حركة الإنسان في الحياة بأنها بحث عن السعادة، فتديّن الإنسان وتمرّده، وطموحه وكسله، وعزلته وخلطته، واستقراره وسفره، وجميع تحوّلاته في الحياة، وكل تلك الأنماط التي اختارها لنفسه، ثم رفضها في يوم من الأيام واختار غيرها بديلاً عنها، كان في كل ذلك يبحث عن السعادة، لا يهمّ أن يعترف بهذا أمام نفسه وأمام الناس..

فكبرياء الإنسان جزء من تكوينه، بل قد يغلّف كثيراً من تصرّفاته بغلاف اجتماعي أو ديني أو أخلاقي، لكنه في أعماقه يبحث عن عمل يجد فيه ذاته، وعن طموح يحقق له معنى من الحياة.

 


قالوا إن الإنسان يدرك في مرحلة متقدّمة من حياته، بناء على خبرات وتجارب مختلفة، أن السعادة تكمن في العطاء دون مقابل، وتكمن بالتحديد في عطاء الإنسان للإنسان، حين يقدّم المرء خدماته دون مقابل مادي أو معنوي، وقد يصل به الحال أن يستغني تماماً عن أي مردود، حتى إنه لا يرجو المدح ولا الامتنان، ولا أن ترد له الحياة هذا الجميل تجاه البشرية، إنها حال من العثور على الذات في العطاء، لذلك سمُّوه (أداء الواجب)، أي أنّ ثمة واجب على الضمير الإنساني، لا يمكن أن ينزاح إلا بأدائه، وهذا سرّ تلك النشوة والراحة والسعادة التي نحسّها حين نقدّم خدماتنا التطوعية للغير.

 


لقد عانت الحداثة الغربية من مآزق كثيرة، ومشاكل عويصة، بعضها عثرت لها على حلول، وبعضها وصلت فيها إلى طرق مسدودة، من ذلك الجفاف الروحي المترتب على ربط السعادة بالنجاح الدنيوي، لقد ارتكزت الحضارة الغربية على هذا المعنى، أن تكون مديراً ناجحاً، أو موظفاً مرموقاً، أو تاجراً أو نجماً أو سياسياً بارعاً، يعني أنك ستحصل على السعادة، ومؤشراتها زيادة خانات الأرقام في البنوك، والسيارات الفارهة، والمنزل الأنيق، والأثاث المتجدّد دوماً، والسياحة السنوية المترفة، وكل ما يحصّل اللذة الفردية، لكن الحداثة بعد كل هذا أدركت أن السعادة لم تأتِ بعد، ربما تحصّل بعضها، لكنّ هذا البعض لا يكفي.

 

 

من براعة الأمم أن تجيد التثاقف وأن تنفتح على غيرها، أن تعي مشكلاتها، فتقرأ تجارب غيرها وتفهمها وتتفهمها، ثم تنقلها بوعي عالٍ يتيح لها تَبْيِئَتها وتوطينها، وليست هذه بالمهمة السهلة، وفي رحلة بحث فلاسفة الغرب عن حل لهذا المأزق، عثروا على تلك النظرية في الهند، التي تربط بين السعادة والعطاء، فتمّ نقلها بحرفية عالية إلى الولايات المتحدة بخصوص، وإلى الغرب بعموم، لقد استطاعوا تكييفها في الواقع، وتحويلها إلى أسلوب للحياة، فظهرت فلسفة (الأعمال التطوّعية)، فالطبيب الذي يعمل في عيادته في النهار، عليه أن يؤدي ساعة أو اثنتين في المساء دون مقابل، أن يقدّم استشارات للفقراء، أو كشفاً مجانياً للمحتاجين في الأحياء الفقيرة، وعلى مهندس الحاسب الآلي أن يقدّم ساعات في نهاية الأسبوع لمحو الأمية التقنية في أطراف المدينة، ووجود ساعات ومشاركات تطوّعية في سيرتك الذاتية من شأنه أن يزيد من فرص حصولك على وظيفة أفضل، لقد استطاع الغرب أن يجعل من العمل التطوعي حالة مجتمعية يصل عدد المشاركين فيها في بعض الدول إلى ثلث السكان.

 


في تقرير (قيمة المتطوّعين) الذي نشره الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، جاءت عبارة في المقدّمة تلخص كثيراً من المعاني المتقدّمة في العمل التطوّعي، يقول كونوي رئيس الاتحاد: «لا يوجد نداء عمل أكبر من قيام شخص بمنح معرفته أو مهاراته أو وقته أو مواده، إلى من يحتاج المساعدة أو المواساة، وهذا هو المبدأ الأساسي في العمل التطوعي.
فالتطوع هو في صميم البناء المجتمعي، وهو يعزز الثقة والتبادلية، ويشجّع المواطنة الصالحة، ويوفر بيئة يمكن فيها للناس تعلم المسؤولية المجتمعية والمشاركة المدنية».

 

 

إن التطوع هنا يصبُّ بشكل مباشر في ترسيخ معاني الوطنية، إنه يحقق الانتماء والمسؤولية، فالمواطنة الحقيقية هي إحساس الإنسان بأنه بات يساهم في واقعه، وأنه مشارك في وطنه.
إن ربّ المنزل الذي يساهم في صنع منزله، ويعرف كل زاوية من زواياه، يكون أكثر تعلقاً وتشبثاً به، لأنه بات يعني له الكثير، فيَدُه وبصمته وذوقه، وحتى سعادته وألمه، محفورة في كل ركن منه، أما ربّ المنزل الكسول فلا يضرّه أن يبدّل منزله في كل يوم، لأنه لا يعني له سوى مكان للإقامة، إنه مكان كأيّ مكان في العالم، والأوطان بالنسبة لنا مثل ذلك.

 


إن القرآن الكريم يؤكد على قيمة العطاء والإنفاق، فقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم} عامة في كل رزق، فالوقت والموهبة والمال والذكاء وغيرها، كل ذلك مما رزقنا الله، وعلينا أن ننفق منه، وفي حين يجد الإنسان ذاته في العطاء والإنفاق، عليه أن يستهدف أخاه الإنسان، فيبحث عن حاجاته قبل الشروع في العمل، فليس من المعقول أن نقوم بتزيين حائط منزل لا يوجد فيه طعام، وليس من الذوق أن نقوم بتوزيع الحلوى في منزل يفتقر مرضاه إلى الدواء..

نحن لا نقدّم خدماتنا لإرضاء ذاتنا فحسب، بل نقدّمها لتخفيف آلام الإنسان،

من هنا بات على (العمل التطوعي) أن يتحوّل من شكله الفوضوي في كثير من الأحيان إلى شكل رشيد، يقوم على دراسة حالة المجتمع، وتحديد أولوياته، قبل الشروع في العمل.