واحة التفكير

ثـــــورة على الذات‘

السبت 22 محرّم 1436 هـ الموافق 15 نوفمبر 2014 م

قرر أن يترك بلده ويهاجر طلباً للرزق..

إن ما يلاقيه من عَنَت وشِدّة لَأمر صعب على النفس،

وأرض الله واسعة كما يقولون ..

 

جمع الفتى حاجياته القليلة، وتجهّز للرحلة، ثم ذهب لوداع أحد أساتذته الذي يُكنّ له كثيراً من الحب والتقدير، ودّعه الأستاذ بعدما ذكّره بألا ينسى طموحه الكبير، وأهدافه الغالية، وشدّد عليه أن يكدّ ويتعب كي يصل إلى منتهى أحلامه وغاية أمانيه..

 

ra7il2.jpg (520×780)

 


كان الوداع قصيراً.. قبل أن يمضي الفتى في طريق رحلته، وحلمه يسبقه بخطوات..


كان الجو شديدة الحرارة، والصحراء على اتساعها تنبئه أن المشوار لا يزال طويلاً..

 


وفي الطريق توقّف الفتى، وقد لفت نظره أمر عجيب: عصفور كسيح لا يقدر على الطيران، وقد تُرك وحده وسط الصحراء الشاسعة، وكان السؤال المُحيّر: كيف يعيش هذا العصفور وسط هذه الأحوال القاسية؟ فلا ماء ولا طعام يقيمان أوْده، وجناحه مكسور؛ فلا يقدر على أن يحمله على الطيران ليأتي بما يعطيه سُبل الحياة.


جلس صاحبنا وقد أصبح أمر العصفور شغله الشاغل، وإجابة لغز بقائه على قيد الحياة مع انعدام الوسيلة هو ما يؤرقه.

وجاءته الإجابة بعد مدة من الانتظار؛ عصفور سليم أخذ يطير فوق زميله الكسيح، ثم هبط بجواره، وراح يلقمه الطعام الذي أحضره له في فمه!


كان الأمر عجيباً على الفتى، الذي أخذ يتأمل هذا المشهد بدهشة عارمة، قبل أن يهبّ فجأة وهو يُحدّث نفسه قائلاً: ويحك.. انظر كيف أنّ فضل الله ورحمته لم تنسَ عصفوراً ملقى في تلك الصحراء الشاسعة؛ فبَعَث له من يُطعمه ويسقيه ويؤنس وحدته، أليست رحمة الله أولى بعباده من البشر؟ نعم والله.

 

عصفور سليم أخذ يطير فوق زميله الكسيح وهبط بجواره وراح يلقمه الطعام


"إن فضل الله لعظيم، وربي القادر على أن يعطي الطائر الكسيح رزقه وهو شبه ميت، لقادر على أن يبعث لي رزقي وأنا حي في كامل عافيتي؛ فعلامَ السفر وإرهاق الروح والجسد؛ فلأعود إلى بلدتي، وليقضي الله أمراً كان مفعولاً"!


هكذا قال الفتى لنفسه، وعاد أدراجه إلى بلدته ثانية، ولم يمرّ يومان إلا وتقابَل مع أستاذه الذي وقف مندهشاً، سائلاً له عن حاله، وسبب إحجامه عن السفر بعدما ودّعا بعضهما؛ فحكى له الفتى كيف أن رؤيته قد تغيرت، وأن مشهد العصفور الكسيح الذي يُرسل الله له رزقه دون أدنى مجهود منه قد غيّر تفكيره، وجعله أكثر إدراكاً للحياة، ولمفهوم الرزق.



هنا ضرب الأستاذ كفاً بكفّ، ونعى موات الهمة وانعدام الطموح، قائلاً له: "ولماذا يا بني ارتضيت أن تكون الطائر الكسيح، ولم ترضَ أن تكون الطائر الصحيح؟! لماذا صنّفت نفسك ممن يتلقى معونة الأصحّاء، ويعيش وقد تبرمج على الأخذ والرضا بالقليل، وأبى أن يكون من العطّائين، الذين ينيرون الدنيا بفضلهم، وإيجابيتهم؟!".


إن موات الهمة لَمصيبة، والرضا بالأدنى برغم القدرة على الحصول على الأعلى لَآفة، تصيب طموح المرء منا؛ فتهبط به من سُلّم المجد إلى ساحة البسطاء من البشر..

يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله: "ينبغي للعاقِل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه؛ فلو كان يُتصوّر للآدمي صعود السماوات؛ لرأيت من أقبح النقائِص رضاه بالأرض".


إنني لا أنتمي إلى أولئك الذي ينصحوننا ليل نهار بفعل المستحيل، وإخراج الوحش الكامن بداخلنا، مُردّدين تلك المقولة المطاطية "ما دام غيرك فَعَلها؛ فأنت قادر على ذلك"، دون الوضع في الاعتبار الفروقات الفردية بين البشر، غير مدركين أن كل أمرأ مقدَّر لما خُلق له؛ لكنني مع ذلك أؤمن أن لكل منا قدرة إبداعية ما، تؤهله لأداء أعماله بشكل قادر على انتزاع آهات الإعجاب من الآخرين، وفوق هذا تُشبع لديه الاحتياج الإنساني إلى الإنجاز والعطاء.


لكل منا أسطورته الخاصة -كما يقول باولو كويلو- إذا ما بحثت عنها بجد، وتعب، وبذلت في سبيل تحقيقها العَرَق، بل والدم، ستكون قد وضعت نفسك في مصافّ النخبة من البشر.. وليس شرطاً أن يكون حلمك أو هدفك شيئاً خارقاً مذهلاً، المهم أن يكون مُعبّراً عن قدراتك الحقيقية، لا ما تتوهم أنه غاية ما يمكنك أن تفعله.


ولعل مايكل أنجلو -الرسام العبقري- كان عبقرياً أيضاً وهو يقول: "لو كنت كنّاساً.. فسأُصبح مايكل أنجلو الكناسين!"؛ مؤكداً أنه مهما كانت الأعمال التي توكل إليه بسيطة؛ فإن أداءه لها سيكون في غاية الإبداع، والسبب أنه "مايكل أنجلو" المُبدع الفنان!



والكارثة تأتي مِن أن يقتل المرء منا الطموح بداخله، راضياً بالأدنى من الأهداف؛ برغم أن الأهداف البسيطة لا سحر لها ولا بريق، وبرغم أن قدرة معظمنا ليست بالبسيطة إذا ما قررنا فعلاً أن نصنع في دنيانا ما نفخر به أحياء وأموات.


فلا ترضَ أبداً يا صاحبي بأن تكون طائراً كسيحاً في الحياة، تنتظر ما يجود عليك به هذا أو ذاك؛ بل اقتحم معترك الحياة؛ متسلحاً بما لديك من مواهب وقدرات، واضعاً نُصب عينيك هدفاً اخترته بعناية.


الأستاذ كريم الشاذلي